في أحد أيام الصيف الهادئة، جلست تحت شجرة الليمون في حديقة بيتنا القديم، أستمع إلى صوت جدي وهو يحكي قصصه التي لا يملّ منها أحد. كان صوته عميقًا دافئًا، يحمل في نبراته خبرة السنين، وكأن كل كلمة تخرج منه تحمل عبق الماضي وصدق التجربة.
جدي رجل تجاوز الثمانين، لكن ملامحه ما زالت قوية تشهد على حياة مليئة بالكفاح. تجاعيد وجهه تحكي حكايات الصبر والعمل، وعيناه الصافيتان تلمعان بحكمة لا تُكتسب إلا من العمر الطويل. لحيته البيضاء تزين وجهه كإكليل من الوقار، وابتسامته تشعّ طمأنينة تملأ المكان بالسكينة.
كان جدي يبدأ يومه قبل شروق الشمس، يتوضأ ويصلي الفجر في خشوع، ثم يجلس يسبّح الله بهدوء. أحبّ الزراعة كثيرًا، فكان يقضي ساعات طويلة يعتني بالنخيل والأزهار في حديقته الصغيرة، يرويها وكأنه يروي قلبه. كنت أراقبه بإعجاب، وأتعجب من ذلك الإصرار والعطاء الذي لا يعرف الملل.
عندما نجلس معه، كنا نشعر أن الزمن يعود إلى الوراء. يحكي لنا عن طفولته، عن القرية القديمة التي وُلد فيها، وعن الناس الذين رحلوا وبقيت ذكراهم في قلبه. كان يروي القصص بأسلوب يجمع بين الطرافة والعبرة، يضحكنا تارة، ويجعلنا نفكر تارة أخرى.
تعلمت من جدي معنى الصبر، ومعنى الرضا بما قسمه الله. علّمني أن القوة ليست في الجسد، بل في القلب والإيمان.
كان يقول لي دائمًا: يا بُنيّ، من أحبّ الناس أحبّته الحياة.
كلمات بسيطة لكنها ترسخت في ذاكرتي كنبراسٍ لا ينطفئ.
كلما جلست معه أشعر أنني أمام مدرسة كاملة من القيم والأخلاق. في حضرته، أتعلم التواضع، وأتذكر أن الجذور الأصيلة هي التي تمنح الشجرة ثباتها. رحل جدي قبل سنوات، لكن صوته ما زال يسكن ذاكرتي، يهمس في داخلي كلما ضعفت أو تعبت.
وسيظل جدي، في نظري، رمز الحنان والحكمة، الرجل الذي علّمني كيف تكون الحياة جميلة رغم قسوتها، وكيف يكون الإنسان عظيمًا بتواضعه لا بعمره.